تحقيق "أسوشيتد برس"- تفكيك زيف اتهامات العنف الجنسي في 7 أكتوبر

المؤلف: د. محمود الحنفي10.29.2025
تحقيق "أسوشيتد برس"- تفكيك زيف اتهامات العنف الجنسي في 7 أكتوبر

قبل أيام قليلة، فجرت وكالة "أسوشيتدبرس" الأميركية مفاجأة مدوية بتحقيق صحفي يكشف زيف الادعاءات التي تتهم المقاومة الفلسطينية بممارسة العنف الجنسي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لتوجه بذلك صفعة قوية للرواية الإسرائيلية التي سارعت إلى تبنيها وسائل إعلام مثل "نيويورك تايمز". والأدهى من ذلك، تورط تقرير مثير للجدل صادر عن الممثل الخاص للأمم المتحدة في دعم هذه الادعاءات، وهو ما يستدعي تدقيقًا منهجيًا كما سنبين في هذا المقال.

فقد أصدر مكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعني بالعنف الجنسي في حالات النزاع تقريرًا رسميًا عقب زيارة لدولة الاحتلال استمرت من 29 يناير/كانون الثاني إلى 14 فبراير/شباط، وتم نشره في الرابع من مارس/آذار 2024.

إن التوقيت الزماني لإصدار التقرير يثير الشبهات العميقة، خاصةً مع استعانة مسؤولين إسرائيليين به على نطاق واسع لتبرير "وحشية" المقاومة، وإعطاء الضوء الأخضر والغطاء الكامل لجيش الاحتلال لارتكاب ما يشاء بحق هؤلاء "الهمج المتوحشين"، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول المنهجية المتبعة في التقرير للوصول إلى هذه الاستنتاجات الخطيرة، واتهام المقاومة "بارتكاب انتهاكات جنسية"، وكذلك حول طبيعة الأدلة التي استند إليها التقرير، وهل هي أدلة فعلية ملموسة أم مجرد تحليلات وتخمينات؟ وكيف سمحت سلطات الاحتلال للجنة الأممية بزيارة إسرائيل بعد منعها سابقًا، بينما تمنع عشرات البعثات الأممية الأخرى من زيارة قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة والقدس؟

معلومات أساسية حول التقرير

يرتكز التقرير المؤلف من 23 صفحة على حصيلة الزيارة الرسمية التي قام بها مكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى إسرائيل والضفة الغربية المحتلة لمدة 17 يومًا، وصدر في 4 مارس/آذار 2024. واللافت للانتباه أن التقرير يعتمد في معظمه على مصادر رسمية إسرائيلية باعتبارها حقائق مُسلّمًا بها، وهو ما يتعارض مع أبسط قواعد البحث العلمي، إذ أن إسرائيل تعتبر طرفًا رئيسيًا في الصراع.

كما تجدر الإشارة إلى أن البعثة الأممية لم تتمكن من زيارة الأراضي المحتلة إلا بناءً على دعوة رسمية من الحكومة الإسرائيلية، وذلك بعد رفضها السماح للبعثة بالقدوم في وقت سابق، وهو ما يثير مخاوف جدية بشأن إمكانية التلاعب بالأدلة والضغط على الشهود المحتملين لتوجيه مسار التحقيق. إضافة إلى ذلك، بدأت البعثة أعمالها بمقابلة 33 شخصية رسمية إسرائيلية، وهو ما لا يخدم الهدف الأساسي للبعثة، ومن بينهم الرئيس الإسرائيلي والسيدة الأولى، وممثلون عن جيش الدفاع وجهاز الأمن العام. ومن زاوية أخرى، يكشف تحليل متعمق للتقرير أنه يخلو تمامًا من أية شهادات حقوقية لضحايا العنف الجنسي المزعوم.

الشك في مصداقية المعلومات

تظهر تناقضات صارخة بين فقرات التقرير، مما يثير شكوكًا عميقة حول مصداقيته بشكل عام. ففي الفقرة 22، يذكر التقرير: "في 8 نوفمبر/تشرين الثاني، تلقت إدارة الممثلة الخاصة للأمين العام المعنية بالعنف الجنسي في النزاعات دعوة رسمية من حكومة إسرائيل".

بينما تشير الفقرة 21 إلى أن "عدم التعاون وعدم السماح للجنة الدولية المستقلة للتحقيق.. حال دون حصول الأمم المتحدة على معلومات موثوقة أو مُحقَّقة بشأن العنف الجنسي المرتبط بالهجمات التي شنتها حماس والجماعات المسلحة الأخرى".

هذا السلوك المريب الذي أبدته حكومة الاحتلال فيما يتعلق بالتعاون (بعد الرفض الأولي)، خاصةً مع الأخذ في الاعتبار الوقت المتاح لها، يثير مخاوف حقيقية بشأن التلاعب المحتمل بالحقائق وممارسة ضغوط على الشهود لتقديم إفادات مُوجَّهة.

تدفعنا هذه الظروف والملابسات المحيطة بإصدار التقرير إلى التشكيك في الأساس الواقعي الذي يستند إليه، خاصةً أنه يعتمد بشكل كبير على معلومات "تم الحصول عليها إلى حد كبير من المؤسسات الوطنية الإسرائيلية"، كما هو مذكور في الفقرة 55.

إن هذه الخلفية السياقية التي تم تجاهلها عند الوصول إلى الاستنتاجات النهائية تستدعي اهتمامًا بالغًا، لأنها تشكل تهديدًا جوهريًا لمصداقية المعلومات المقدمة، خاصة وأن إسرائيل طرف في النزاع الدائر، ولديها مصلحة راسخة في التأثير على نتائج التقرير.

منهجية غامضة في تقصي الحقائق

أجرت البعثة الأممية "33 مقابلة، بما في ذلك مع الناجين والشهود على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول، والرهائن المفرج عنهم، والمستجيبين الأوائل، ومقدمي الخدمات الصحية والاجتماعية. كما التقى فريق البعثة أيضًا بعائلات وأقارب الرهائن الذين ما زالوا محتجزين، وكذلك بأفراد المجتمع النازحين من كيبوتس نيرعوز.. ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، وممثلين عن الأوساط الأكاديمية"، (الفقرة 3).

يفتقر التقرير إلى الشفافية والوضوح بشأن توزيع هذه المقابلات على القطاعات المذكورة أعلاه. وبالنظر إلى العدد الإجمالي المحدود للمقابلات التي أجريت، وإدراج أفراد لا يمتلكون خبرة مباشرة كشهود أو ضحايا أو ناجين من العنف الجنسي (مثل الأوساط الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني وعائلات الرهائن الذين لم يتم إطلاق سراحهم)، فإن مجموعة المقابلات القيّمة التي يمكن أن تقدم شهادات ذات مغزى تتضاءل بشكل كبير.

يؤكد التقرير في الفقرة 36: "اجتمع فريق البعثة مع 27 ممثلًا عن المجتمع المدني الإسرائيلي، بما في ذلك منتدى الرهائن والعائلات، والمنظمات غير الحكومية، والأكاديميون، والناشطون في مجال حقوق المرأة، والعنف الجنسي والقانون الجنائي الدولي". وهذا يقلل من عدد المقابلات التي يحتمل أن تسفر عن أدلة حول العنف الجنسي إلى ما لا يزيد عن سبع مقابلات مع ناجين وشهود مرتبطين مباشرة بعملية 7 أكتوبر/تشرين الأول والمحتجزين المفرج عنهم.

علاوة على ذلك، تشير الفقرة 37 إلى أن "فريق البعثة أجرى مقابلات سرية خاصة به مع الناجين والشهود على هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول".

يتناقض التقرير أيضًا مع نفسه من خلال الإشارة إلى عدم وجود ناجين أو ضحايا للعنف الجنسي، مما يثير الشكوك حول صحة أية شهادات مزعومة من الضحايا أو الشهود في إعداد التقرير. إن هذا النقص في الوضوح فيما يتعلق بالشهادات التي تم جمعها يقوض مصداقية التقرير في تلبية معيار "تحديد الوقائع"، كما هو موضح في الفقرة 26.

على سبيل المثال، تذكر الفقرة 48 عددًا غير معروف من الناجين أو ضحايا العنف الجنسي، إلى جانب عدد قليل يخضعون للعلاج ويعانون من ضائقة نفسية شديدة وصدمة. استخدم التقرير لغة مُضلِّلة ترمي إلى التعتيم على الفارق بين ضحايا العنف الجنسي، وضحايا الهجمات الذين يخضعون للعلاج، مما يخلق حالة من الالتباس ويضعف معيار الإثبات الأساسي للتقرير.

تجاوز حدود الاختصاص

يتناول التقرير، في صفحات عديدة، الصراع الدائر بين إسرائيل وحماس إما بشكل عرضي أو تحليلي. إن هذه المنهجية لا تتماشى مع المهام العامة للبعثة وأهدافها المحددة، كما هو مفصل في التقرير. ويقول التقرير في الفقرة 40: "تعقيد وطريقة عمل الهجمات، التي يبدو أنها حدثت على ثلاث موجات تراكمية، يوحي بمستوى عالٍ من التخطيط والتنسيق والمعرفة المسبقة التفصيلية بالأهداف المختارة".

هذا النوع من التحليل لا يندرج ضمن اختصاصات الممثل الخاص للأمين العام المعني بالعنف الجنسي في حالات النزاع، بل يتعلق بالإطار العام للصراع. كما يشير التقرير في الفقرة 42 إلى أن "المعلومات التي استعرضها الفريق تُظهر أن العناصر المسلحة جاءت مجهزة بأسلحة ومعدات ثقيلة وعسكرية تتراوح بين القاذفات الصاروخية والبنادق الآلية …" ويستطرد قائلاً: "حملة عشوائية للقتل وإلحاق المعاناة واختطاف أكبر عدد ممكن من الرجال والنساء والأطفال". هذا السرد لا يسهم في تركيز المهمة على توثيق حالات العنف الجنسي.

هذا الاختلال الفاضح في التوازن بين طرفي الصراع يقود حتمًا إلى نتيجة منحازة وغير محايدة.

أحادية مصدر المعلومات

يعتمد التقرير بشكل مفرط على روايات حكومة الاحتلال، وكأنها حقائق دامغة لا تقبل الشك. على سبيل المثال، يتناول التقرير موقع مهرجان نوفا باعتباره مسرحًا للهجوم، ويؤكد في الفقرة 58 أن هناك "أسبابًا معقولة للاعتقاد بأن عدة حوادث اغتصاب، بما في ذلك الاغتصاب الجماعي، قد وقعت في وحول موقع مهرجان نوفا خلال هجمات 7 أكتوبر/ تشرين الأول"، مستشهدًا بـ "مصادر موثوقة" شهدت حالات اغتصاب وجثث لنساء عاريات، وبعضهن مصابات بجروح ناجمة عن طلقات نارية.

لكن حقيقة ما جرى في مهرجان نوفا لا تزال موضع شك، حتى في مصادر إعلامية إسرائيلية، حيث يتردد أن طائرات إسرائيلية كانت مسؤولة عن سقوط القتلى وإحداث الأضرار بسبب خطأ في التقدير من جانب الطيارين، وليس الهجمات الفلسطينية.

تقرير مسيّس

كما ذكرنا سابقًا، أجرت البعثة الأممية مقابلات مع 33 شخصية سياسية رفيعة المستوى، وهو رقم يعادل عدد المقابلات التي أجريت مع الأطراف المعنية ذات الصلة خلال المهمة. هذه النقطة بالتحديد تقوض بشكل كبير تجرد ونزاهة التقرير. كيف ذلك؟

بالإضافة إلى الاجتماعات مع وزارتي الصحة والعدل ومكتب النائب العام والشرطة الوطنية الإسرائيلية المسؤولة عن التحقيق في هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أجرى فريق المهمة أيضًا اجتماعات جانبية مع شخصيات عسكرية وسياسية لا صلة لها بنطاق المهمة. وشمل ذلك زيارات لرئيس إسرائيل والسيدة الأولى وضباط من جيش الاحتلال ووزارة الخارجية وجهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك)، مما يشير إلى احتمال واضح لوجود تأثير سياسي على عمل البعثة ونتائجها.

وحتى لو كانت الحوارات مع الأطراف الحكومية ضرورية، فمن المستحسن إجراؤها بعد الانتهاء من التقرير لمناقشة تنفيذ الإجراءات الموصى بها. علاوة على ذلك، فإن الاجتماعات مع الأطراف غير ذات الصلة بتركيز المهمة، مثل السيدة الأولى والمؤسسات العسكرية التي تدير العمليات الجارية في الصراع، تقوض موضوعية ومصداقية التقرير. وبالإضافة إلى ذلك، يبدو أن البند "ب" من التقرير يتعمد توزيع اللوم على مختلف الجهات باستثناء السلطات الإسرائيلية، التي يتم إعفاؤها من أي تقصير في جمع الأدلة والحفاظ عليها. هذا الإطار المتعمد يثير المزيد من الشكوك حول نزاهة التقرير وحياديته.

مسار محدّد يوصل لنتيجة محددة

على الرغم من أن البعثة الأممية لم تزر غزة (الفقرتان 79 و87)، إلا أنها لم تطلب حتى القيام بذلك (الفقرة 23). وعلى الرغم من وجود تسجيلات فيديو لنساء فلسطينيات يقدمن إفادات عن تعرضهن لعنف جنسي شديد على يد جنود إسرائيليين، وكذلك تسريب مشاهد تصور تعرية قسرية جماعية لهن بين المدنيين الذكور المحتجزين، فإن التقرير يزعم أن "هناك معلومات محدودة جدًا حول ما إذا كان العنف الجنسي قد يحدث في غزة"، (الفقرة 83).

وفي المقابل، يخلص التقرير إلى أن "هناك معلومات واضحة ومقنعة بأن بعض الرهائن الذين تم أخذهم إلى غزة تعرضوا لأشكال مختلفة من العنف الجنسي ذي الصلة بالنزاع، ولديها أسباب معقولة للاعتقاد بأن هذا العنف قد يكون مستمرًا"، (الفقرة 85).

تستند الاستنتاجات المتعلقة بالمحتجزين والمحتجزات الإسرائيليين على المقابلات مع العائلات التي ليس لديها اتصال بأفراد عائلاتها. وعدد المحتجزين القلائل الذين قامت البعثة بمقابلتهم لم يلاحظوا أي حالات عنف جنسي أثناء الاحتجاز، كما يشير التقرير. ومع ذلك، وجد فريق البعثة "معلومات واضحة ومقنعة بأن البعض تعرض لأشكال مختلفة من العنف الجنسي ذي الصلة بالنزاع، بما في ذلك الاغتصاب والتعذيب الجنسي والمعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة ولديه أسباب معقولة للاعتقاد بأن هذا العنف قد يكون مستمرًا"، (الفقرة 17).

هذه "المعلومات الواضحة والمقنعة" التي تفيد بوقوع حالات عنف جنسي بحق إسرائيليات تقوم على الشكوك والتخمينات، وليس على أدلة قاطعة وراسخة: "يجب أيضًا مراعاة الأدلة الظرفية، مثل موقع الجثة وحالة الملابس، عند تحديد وقوع انتهاكات جنسية"، (الفقرة 74). وكذلك ما ورد في الفقرة 60: "للتأكد من أنه تم العثور على جثث عدة – لنساء وبعض الرجال - عارية تمامًا أو جزئيًا أو كانت ملابسهم ممزقة، بما في ذلك بعضهم مقيّد و/أو مرتبط بالهياكل، وهو ما قد يكون دليلًا على بعض أشكال العنف الجنسي".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة